سلامة الصدر (2-3)
أمثلة من حياة الصالحين:
محمد صلى الله عليه وسلم:
هذا سيد ولد آدم أجمعين عليه صلوات رب العالمين، يذهب إلى الطائف عارضًا نفسه على وجهائها وأهلها، فلم يجبه منهم أحد، فانطلق مهمومًا، وإذا هو بسحابة قد أظلته فيها جبريل، ومعه ملك الجبال فناداه ملك الجبال: "إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين [جبلا مكة] فقال صاحب الصدر السليم صَلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا")1)
فأي صبر وسلامة صدر هذا !!!.
ثم تأمل حاله صَلى الله عليه وسلم حين ضربه قومه فأدموه (أسالوا دمه) فمسح الدم وهو يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
واستحضر معي حالة المشركين معه صلى الله عليه وسلم في مكة وقد آذوه وسعوا في قتله حتى خرج من بين أظهرهم وكان الأمر كما أخبر الله عز وجل : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30)
فلما مكن الله له ودخل مكة فاتحا ما انتقم ولا آذى بل قال لقومه:
"لا تثريب عليكم اليوم".
والأمثلة من حياته صَلى الله عليه وسلم كثيرة، ننصح بقراءة سيرته.
نبي الله يوسف عليه السلام:
وقصته مع إخوته أنموذج رائع لسلامة الصدر فبعد أن ألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبيه ودخوله السجن إلى غير ذلك مما هو معروف مكن الله له وجعله على خزائن مصر فلما ترددوا عليه وعرفوه قالوا: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ). فما كان منه إلا أن قَال: ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). ما حمل غلاً. ثم لما جاء أبوه مع إخوته: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100)
فلم يقل أخرجني من الجب كي لا يُخجلهم (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ)، ولم يقل رفع عنكم الجوع والحاجة حفظًا للأدب معهم. (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فأضاف ما جرى إلى السبب ولم يضفه إلى المباشر (إخوته).
ثم تأمل معي موقف الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - مع مسطح بن أثاثة إذ كان الصديق ينفق على مسطح فلما كانت حادثة الإفك كان مسطح ممن خاضوا فيها فأقسم الصديق ألا ينفق على مسطح فأنزل الله قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:22) فما كان من الصديق إلا أن أعاد النفقة على مسطح.
وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه في أوج انتصاراته وهو قائد الجيش يأتيه خبر عزل الفاروق له فما تكلم بما يدل على سخطه ولا ترك ساحات القتال بل ظل مجاهدا كجندي من جند المسلمين بعد أن كان قائدهم.
ثم استمع إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقول : "إني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلدًا من بلدان المسلمين فأفرح به، ومالي به سائمة".
أما أبو دجانة رضي الله عنه فقد دُخل عليه وهو مريض فرأوا وجهه يتهلل فكلموه في ذلك فقال: "ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى كان قلبي سليمًا للمسلمين".
أما عُلبة بن زيد فإنه لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة ولم يجد ما ينفقه بكى وقال: "اللهم إنه ليس عندي ما أتصدق به، اللهم إني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أين المتصدق بعرضه البارحة؟" فقام عُلبة رَضي الله عنه، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم : "أبشر فوالذي نفسُ محمد بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة")2).
وانظر إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يُضرب ويُعذَّب على يد المعتصم، وحين أخذوه لمعالجته بعد وفاة المعتصم وأحسَّ بألمٍ في جسده قال: "اللهم اغفر للمعتصم".
سبحان الله!! يستغفر لمن كان سببًا في ألمه. إنه منطق عظيم لا تعرفه إلا الصدور التي حملت قلوبًا كبيرة عنوانها: **سلامة الصدر.***
ويضرب لنا أبو ضمضم أروع الأمثلة فكان يقول إذا أصبح : ( اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس ، وقد تصدقت عليهم بعرضي ، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم ) قال ابن القيم رحمه الله : وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه )3)) .
وتأمل شأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع أعدائه ، حتى قال بعض أصحابه : وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه . قال ابن القيم تلميذه رحمهما الله تعالى :( ما رأيته يدعو على أحد منهم قط ، وكان يدعو لهم . وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه ، وأشدهم عداوة وأذى له ، فنهرني ، وتنكر لي ، واسترجع ، ثم قام من فوره إلى بيت أهله ، فعزاهم ، وقال : إني لكم مكانه ، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ، ونحو هذا من الكلام . فسروا به ، ودعوا له ، وعظموا هذه الحال منه ، فرحمه الله ورضي عنه ) )4)
وهل أتاك نبأ الشيخ ابن باز - رحمه الله - مع ذلك الرجل من الخرج؟ فقد تولى الشيخ القضاء في مدينة الخرج وجاءه رجل في قضية فسب الرجل الإمام ابن باز رحمه الله،وشاع الخبر في المدينة وخرج الشيخ إلى الحج ،وبينما كان الشيخ في الحج مرض الرجل ومات، فلما قُدِّم الرجل ليُصلَّى عليه، أبى الإمام الصلاة عليه بسبب سبه للشيخ ابن باز، وصلَّى غيره، فلما رجع الشيخ وأُخبر الخبر عاتب الإمام جدًّا على فعله، ولم يرض ما صنع، ثم إنه سأل عن قبر الرجل فأتاه وصلَّى عليه ودعا له.
فأين نحن من هؤلاء؟!!.
من أسباب التشاحن والتباغض:
1) طاعة الشيطان: قال تعالى: (وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الّتي هِي أحسَنُ إنّ الشَيطَانَ يَنَزَغُ بَيَنَهُم إن الشَيطَانَ كَانَ للإنَسانِ عَدُوّاً مُبِيناً )[الإسراء:53] وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم) )5)
2) الغضب: فالغضب مفتاح كل شر وقد أوصى صلى الله عليه وسلم رجلاً بالبعد عن الغضب فقال: ( لا تغضب)6) )فرددها مراراً، فإن الغضب طريق إلى التهكم بالناس والسخرية منهم وبخس حقوقهم وإيذائهم وغير ذلك مما يولد البغضاء والفرقة.
3) النميمة: وهي من أسباب الشحناء وطريق إلى القطيعة والتنافر ووسيلة إلى الوشاية بين الناس وإفساد قلوبهم، قال تعالى ذاما أهل هذه الخصلة الذميمة: (هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ )[القلم:11] وقال صلى الله عليه وسلم: ) لا يدخل الجنة نمام))7)
4) الحسد: وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها وفيه تعد وأذى للمسلمين نهى الله عنه ورسوله قال صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) (8) والحسد يولد الغيبة والنميمة والبهتان على المسلمين والظلم والكبر.
5) التنافس على الدنيا: خاصة في هذا الزمن حيث كثر هذا الأمر واسودت القلوب، فهذا يحقد على زميلة لأنه نال رتبة أعلى، وتلك تغار من أختها لأنها حصلت على ترقية وظيفية، والأمر دون ذلك فكل ذلك إلى زوال.
6) حب الشهرة والرياسة: وهي داء عضال ومرض خطير، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ( ما من أحدٍ أحب الرياسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير ). وهذا مشاهد في أوساط الموظفين والعاملين.
7) كثرة المزاح: فإن كثيره يورث الضغينة ويجر إلى القبيح والمزاح كالملح للطعام قليله يكفي وإن كثر أفسد وأهلك. وهناك أسباب أخرى غير هذه.
يتبع الأسباب المعينة على سلامة الصدر
(1) أخرجه البخاري باب إذا قال أحدكم آمين ح3059-3/1180 ، ومسلم باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين ج4754-5/181.
(2) ذكره ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة 4/547 .
(3)تهذيب مدارج السالكين ص407.
(4) مدارج السالكين 2/328-329 .
(5) أخرجه مسلم باب تحريش الشيطان ح7281-8/138.
(6) أخرجه البخاري باب الحذر من الغضب ح5765-5/2267 .
(7) أخرجه مسلم باب بيان غلظ النميمة ح303-1/70 .
(8)أخرجه أبو داود باب في الحسد ح4905-4/427 وضعفه الألباني .