موقف ، لا كالمواقف
الدكتور عثمان قدري مكانسي
بسم الله الرحمن الرحيم
قرأت قوله تعالى في سورة النمل :
"وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) " وتساءلت قبل
البحث في التفاسير التي بين يديّ – وهذه عادتي في التفكير بالمعنى قبل التأكد منه
– فأنا أحب أن أضع الفكرة في إطارها الذي أقـَدّره وأفهمه وأرسم صورته في ذهني ،
ثم أتأكد مما وصلت إليه من فهم في التفاسير التي أتلذذ بقراءتها واستنباط
مدلولاتها ، وفي بيتي قريب العشرين تفسيراً ، فأنا مغرم بقراءة التفاسير المتعددة
، فلكل واحد منها طعم يختلف عن الآخر ، ولون يخالف صاحبه تبعاً لاهتمامات المفسرين
وهواياتهم وقُدُراتهم ، فالقرطبي رحمه الله تعالى
يهتم بالفقه وتعدد الروايات مغ التمحيص وإبداء الرأي ،
وابن كثير رحمه الله يكثر من الإسرائيليات ، وقد يتأثر بها ، وما على
القارئ إلا أن يكون حذراً فيما يقرأ إلا أن ابن كثير لمّاح وذكي وجيد الاستنباطات
، أما الطبري رحمه الله فجمّاعة للروايات مسهب
بذكرها ويهتم بذكر الأسانيد ، ومن ثَمّ يترك للقارئ أن يأحذ ما يريد ويطرح ما يريد
استناداً على علم القارئ وفهمه ، ولا شك أن القارئ إن لم يكن واعياً لأسلوب الطبري
فأخذ ما يقرأ دون فهم لأسلوبه ضاع وفهم غير ما أراده المفسّر . ومثله – تقريباً – السيوطي رحمه الله في تفسيره " الدر المنثور "
غير أنه يكثر من الإسرائيليات ويُغرق فيها . والمراغي
رحمه الله يعتمد الأسلوب العصري في تفسيره ، فيذكر تفسير الكلمات ثم المعنى العام
المحتصر ، ثم يشرح ويعلق ويبدي رأيه ويستنبط معاني دقيقة تدل على طول باعه في
التفسير ، والبيضاوي تفسيره محتصر يفي بالغرض
ويهتم بالنحو ، ومثله النسفي رحمه الله غير أن
تفسيره أوسع وأشمل ، وتراه يوازن بين الآراء وينبه إلى الحسن منها كما يفعل
القرطبي . أما سيد قطب رحمه الله تعالى فتفسيره
اجتماعي حركي دعويّ يسقطه على حاضره معتمداً على ثقافته الدعوية الشاملة ، وقد
ظلمه كثير ممن لا يفقهون من الدعوة إلا قشورها ، يتطاولون عليه تطاول الأقزام على
العملاق .
وبين يديّ من التفاسير الموجزة كثير ، اذكر منها المنتخب
في تفسير القرآن ، وقد ألفه علماء مصريون يشهد لهم من يقرأ تفسيرهم بعلوّ كعبهم في
الفهم والأدب وحسن التعبير . وقد أهداني تلميذي وصديقي بآن واحد الشيخ مجد مكي
تفسيره المختصر " المعين " أستعين به
على اقتطاف بعض المعاني الرائقة .
ولا أنسى بعض التفاسير المتوسطة النافعة التي لها شأو واسع في العصر الحديث ، نفع
الله تعالى بها الناس كـ " صفوة التفاسير"
للشيخ الصابوني أطال الله عمره ونفع به ، فهو تفسير أكادمي موفّق يدل على مكانة
صاحبه السامية في الأدب والتفسير على حدّ سواء .
أعود فأتساءل :
لم اللقاء بكبار العتاولة والمجرمين وقد ثبت أنهم من أهل السعير ؟
ولماذا يُحشرون إلى ربهم قبل السقوط في غيابة جهنم؟
وانظر إلى تقديمهم بين الكفار والمشركين والفسقة والملحدين ، وقد كانوا في الدنيا زعماءهم وسادتهم . ثم يُساقون إلى ربهم
للحساب والتوبيح والتقريع ، وممن التوبيخ؟
إنه صادر عن الذات الإلهية ، يقول لهم
تعنيفاً وتبكيتاً : كذبتم بكل آياتي وأنكرتموها دون تدبر ولا فهم ، بل ماذا كنتم
تعملون وأنتم لم تُخلقوا عبثاً ؟. ويسكتون فلا ينطقون ، وتحل عليهم اللعنة ، ثم
ينبذون في سواء الجحيم .
" حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) " يقول سيد رحمه الله :
الناس كلهم يُحشرون ، إنما شاء أن يبرز موقف المكذبين " فهم يوزعون
" يساقون أولهم على آخرهم ، حيث لا إرادة لهم ولا وجهة ولا اختيار . ويُسألون
السؤال الأول للتخجيل والتأنيب ، فمعروف أنهم كذبوا بآيات الله ، أما السؤال
الثاني فملؤه التهكم ، وله في لغة التخاطب نظائر، أكذّبتم؟ أم ماذا كنتم تعملون ؟
فما لكم عمل ظاهر يُقال إنكم قضيتم حياتكم فيه إلا هذا التكذيب المستنكر الذي ما
كان ينبغي أن يكون ...
ومثل هذا السؤال لا يكون عليه جواب إلا الصمت والوجوم ،
كأنما وقع على المسؤول ما يلجم لسانه ، ويكبت جنانه . "
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) "
أقول : قد تكون العقوبة السريعة أهون منها حين تُسبق بتوبيخ وإهانة واحتقار ، إن
انتظارها وهي محتومة أصعب من الاكتواء بها مباشرة ، وانظر إلى شدة خوف الكفار من
النار وهي تعرض عليهم وهم يخافون النظر إليها مجابهة – أعاذنا الله منها – واقرأ
معي قوله تعال في سورة الشورى الآية 45 " وتراهم يُعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طَرْف خفيّ "
والخشوع من الذل خوف شديد يقطع الأنفاس ويُذهب العقول ، وهم في يأس شديد أشد من
العذاب يزيد في إيلامهم ولمّا يقذفوا في أتون النار ، نسأل الله تعالى العافية
وحسن الختام .